في 18 ديسمبر سنة 1832 وصلت طلائع الجيش التركى بقيادة رءوف باشا إلى شمال قونيه وكانت مؤلفة في الغالب من الجنود غير النظامية، فناوشهم إبراهيم باشا ليتحقق مبلغ قوتهم، ولما اّنس منهم ضعفا أراد أن يكرههم على القتال لكن رءوف باشا جنب الدخول في معركة، فأنقضى يوما 18 و 19 ديسمبر في مناوشات حربية حتى استولى المصريون على كثير من الأسرى وغنموا بعض المدافع وفى صبيحة يوم 20 ديسمبر تقدمت جيوش رشيد باشا إلى قونيه، وأخذ كل من القائدين يرتب موقع جنوده. وفى اليوم التالى، يوم الواقعة(21 ديسمبر)، كان الضباب يخيم على ميدان القتال من الصباح فحال دون اكتشاف كل من القائدين موقع الجيش الاّخر، على أن إبراهيم باشا كان يمتاز على رشيد باشا بأنه درس الجهة التي دار فيها القتال دراسة دقيقة، ومرن جنوده على المناورات فيها قبل اشتباك الجيش. وقد رابط الجيش المصري شمالى قونيه وعلى مقربة من ميمنته شمالا بشرق مستنقعات من المياه، وعلى مسيرة فرسخ من ميسرته تقع مدينة سيلة، وأمامه الجبال، وعلى سفحها يرابط الجيش التركى لالذي كان الضباب يحجبه عن أنظار المصريين. وكان البرد قارصا، ولا غرو فالمعركة وقعت في شهر ديسمبر في أشد ايام الشتاء، فنزلت درجة البرد يوم الواقعة إلى 11 فوق الصفر. واصطف الجيشان في مواقعهما، يفصل بينهما نحو ثلاثة اّلاف متر، ومرت لحظة خفت فيها وطأة الضباب قليلا، فأمكن إبراهيم باشا أن يلمح موقع الجيش التركى، وقد رتب خطة الهجوم ترتيبا محكما، فرأى أن الهجوم على ميمنة الترك أمرا لا تحمد عواقبه، لأنها مرابطة على سفح الجبل في مواقع حصينة، يعكس الميسرة التي كانت تستند إلى مستنقعات مكشوفة. وقبل أن يبدأ إبراهيم باشا بالهجوم تقدمت صفوف الترك حتى صارت على بعد نحو ستمائة متر من مواقع المصريين، وأخذت المدافع التركية تطلق القنابل عليهم، فلم يجب المصريون على الضرب بضرب مثله، إلى أن تعرف إبراهيم باشا على صوت الضرب مواقع الترك، وتقدم الصف الثاني من المصريين حتى اقترب من الصف الأول تفاديا من فتك القنابل التركية التي كانت تنصب عليه. واتجه إبراهيم باشا إلى بئر نمرة، تقع على يمين الصف الثاني من الجيش المصري ليزداد علما بمواقع الترك، وكان يصحبه من خاصة أركان حرب مختار بك وكانى بك وأحمد أفندى، ومعه قوة من الف وخمسمائة من العرب. وهناك لمح مواقع الترك، وعرف بثاقب نظره نقطة الضعف التي يصيب منها الهدف، ذلك ان قوة الفرسان كانت تؤلف ميسرة الجيش التركى، وقد أخطأت القيادة التركية في أنها لم تحكم الصلة بين الفرسان والمشاة أثناء التقدم، فحدثت بينهما ثغرة يبلغ طولها نحو الف خطوة جعلت الميسر في شبه عزلة عن بقية الجيش. فانتهز إبراهيم باشا هذه الفرصة، وأعتزم الدخول بقوات الحرس والفرسان في هذه الثغرة ليخترق صفوف الترك، وبادر فعلا فأصدر تعليماته لتحرك هذه القوات، وتولى بنفسه قيادة هذه الحركة، فزحفت قوة الحرس يتبعها الفرسان واجتازت البئر بقليل، ثم انعطفت نحو الشمال حيث ميسرة الترك وهاجمتها هجوما شديدا، وشدت المدفعية أزرها، فصبت قنابلها على الترك وأخذت من الجنب، وكان الهجوم شديدا، والضرب محكما، فتقلقل الترك من مراكزهم لشدة الهجوم وتقهقروا شمالا من غير انتظام في المستنقعات، وبذلك انهزمت ميسرة الجيش التركى. ثم تابع المصريون تقدمهم وتوسطوا ميدان المعركة حيث واجهوا الصف الثالث من مشاة الترك الذين اقتحموا الميدان ووصلوا إلى تلك الناحية فأصلتهم المدافع نارا حامية وأحاط بهم المصريون وضربوهم ضربا شديدا وأوقعوا بهم حتى سلموا سلاحهم. ولما أدرك الصدر الأعظم أن ميسرته قد وقع فيها الاضطراب والفشل أراد أن يلم شعتها ويبث الحمية في نفوس رجاله، فنزل إلى حيث مواقع الجند، لكنه لم يفز بطائل، وضل الطريق لكثرة تكاثف الضباب، وبينما هو يسير على غير هدى وقع في أيدى العرب المصريين، فأحاطو به وجردوه من سلاحه واقتادوه أسيرا إلى إبراهيم باشا، وكان قد مضى على نشوب القتال نحو الساعتين. وتابع المصريون من المشاة والفرسان تقدمهم شمالا، واستأنفوا مع بعض المدافع وهاجموا الصف الرابع من مشاة الترك فحاقت به الهزيمة وسلم وتمزق شمله وبذلك تم للجيش المصري الفوز على ميسرة الترك والصف الثالث والرابع من مشاتهم. وبينما كانت قوات الحرس والفرسان تقوم بهذه الحركات والهجمات الموفقة تقدم الصف الأول من صفوف الأعداء نحو ميسرة الجيش المصري واتخذوا مواقعهم حولها في خط منكسر بغرض الاحاطة بها، واشترك في هذه الحركة الصف الثاني من صفوفهم، وعاونهم فرسانهم فكانت الهجمة هائلة، عنيفة في شدتها، خطيرة في عواقبها، ولكن ميسرة الجيش المصري تلقتها بثبات وشجاعة، وتحركت مدافع الاحتياطى فشدت أزر المدفعية التي تحمى الميسرة، وصبت المدافع المصرية قنابلها على صفوف الترك ,فحصدت صفوفهم حصدا واستبسلت الميسرة في الضرب والقتال، وكان على دفاعها يتوقف مصير المعركة، وأستمرت الملحمة ثلاثة ارباع ساعة، ثم أسفرت عن كسر هجمة الترك وهزيمتهم وتشتيت شملهم في الجبال. وكأنما أراد الترك أن يبذلوا اّخر جهد في المعركة، فتحركت قوة من الفرسان ووصلت تجاه الصف الأول من الجيش المصري، فلم يحفل بها المصريون لأنها كانت سائرة نحو الفشل المحقق، فما زالت تتقدم حتى وصلت إلى ما وراء صفوف الجيش المصري، وهناك تشتت شملها وولت الأدبار انتهت الواقعة بهزيمة الجيش التركي، ودام القتال فيها سبع ساعات، إذ بدأت في الظهر وانتهت بعد غروب الشمس بساعتين، ولم تزد خسارة المصريين عن 262 قتيلا، و530 جريحا، أما الجيش التركي فقد اسر قائده ونحو خمسة آلاف إلى ستة آلاف من رجاله، من بينهم عدد كبير من الضباط والقواد، وقتل من جنوده نحو ثلاثة آلاف، وغنم المصريون نحو 46 مدفعا، وعددا كثيرا من الرايات. فلا غرو كانت معركة قونيه نصرا مبينا للجيش المصري، وصفحة فخار في تاريخ مصر الحربي. ولقد كانت من المعارك الفاصلة في حروب مصر، لانها فتحت امام الجيش طريق الاستانة، إذ أصبح على ميسرة ستة أيام من البوسفور، وكانت الطريق مخلاة لا يعترضه فيها جيش ولا مقعل، فلا جرم ان ارتعدت فرائص السلطان محمود بعد هذه الواقعة إذ راى قوائم عرشه تتزلزل امام ضربات الجيش المصري وانتصاراته المتوالية. {{{خريطة}}} 249 مواقع المصريين 1-2 الصف الأول من صفوف الجيش المصري يقوده سليم بك المانسترلي. 3-4 الصف الثاني بقيادة سليمان بك (باشا) الفرنساوي على بعد ثلثمائة خطوة فقط من الخط الأول، وقد اقترب منه إلى هذا الحد بسبب تكاثف الضباب صبيحة يوم الواقعة وتساقط قنابل الترك عليه.[1] 5 جنود الحرس يقودهم سليم بك الحجازي ويتألف منهم الصف الثالث. 6 الفرسان يقودهم احمد بك (باشا) المنكليواحمد بك المانسترلي. 7 و 8 و 9 المدافع وقد نصبت في الميمنة والقلب والميسرة بقيادة سليم بك قائد الطوبجية. 10 بطاريتان من مدافع الاحتياطي. 11 بطارية من مدافع الاحتياطي مع الحرس. 12 و13 اورطتان في هيئة مربعين لحماية الجناحين. مواقع الأتراك 14-15 الصف الأول من المشاة. 16 الصف الثاني من المشاة. 17 الصف الثالث من المشاة. 18 الصف الرابع من المشاة. 19 الايان من الفرسان على يمين الصف الأول من المشاة. 20 الايان من الفرسان على يسار الصف الأول من المشاة. 21 الاي من الفرسان خلف 19 22 الاي من الفرسان عن يسار الصف الثاني من المشاة. ،/، مدافع الترك موزعة امام صفوف المشاة والفرسان. 23 موقع البشر التي اتجه إليها إبراهيم باشا ليستطلع مواقع الترك. 24 الموقع الذي وصل اليه الفرسان المصريون لمهاجمة الجناح الأيسر للجيش التركي بمعاونة جنود الحرس. 25 الموقع الذي وصلت اليه المدافع المصرية لشد ازر هذه الهجمة. 26 النقطة التي ارتد إليها الجناح الأيسر للجيش التركي في المستنقعات بعد هزيمته امام هجمة الفرسان المصريين. 27 و 28 و 29 المواقع التي وصل إليها المصريون من الفرسان والحرس في تقدمهم واحاطوا بالصف الثالث من المشاة الترك نمرة 17 الذي زحف من موقعه الاصلي إلى حيث سلم سلاحه في الموقع نمرة 17. 30 الموقع الذي تقدمت اليه المدافع المصرية الاتية من 26 لتشترك في الحركة السابقة. 31 المكان الذي اسر فيه الصدر الاعظم محمد رشيد باشا قائد الجيش التركي. 32 المكان الذي كان به إبراهيم باشا حينما وقع الصدر الاعظم اسيرا. 33 و34 المواقع التي وصل إليها المصريون في تقدمهم شمالا. 35 الموقع الذي تقدمت اليه المدافع المصرية اتية من الموقع 30. 36 الموقع الذي هزم فيه الالاي التركي نمرة 18 امام هجوم المصريين. 37 و 38 و39 المواقع التي تقدم إليها الصف الأول من مشاة الترك نمرة 14-15 للاحاطة بمسيرة الجيش المصري. 40 و41 المواقع التي تقدم إليها الصف الثاني من مشاة الترك نمرة 16 للاشتراك في الحركة السابقة. 42 المواقع التي تقدم اليه الفرسان الترك نمرة 19 و21 للاشتراك في الحركة السابقة. 43 انتقال المدفعية المصرية من الموقع 10 وانضمامها إلى مدافع الجناح الأيسر حيث اشتركت في كسر هجمة الترك وتشتيت شملهم. 44 المواقع التي تقدم إليها الفرسان الترك نمرة 22 حيث تشتت شملهم. حركات الأسطول المصري كان للاسطول المصري فضل كبير في معاونة الجيش خلال الحرب السورية من مبدئها إلى منتهاها، فان هذه الحرب لم تقتصر على البر. بل تعدته إلى البحر، ونا ذاكرون هنا ما قام به الاسطول من الاعمال الجليلة التي ساعدت الجيش على بلوغ النصر. اشترك قسم من الاسطول في حصار عكا كما قدمنا، فقد اصدر إبراهيم باشا تعليماته إلى سر عسكر الدونئمة المصرية عثمان نور الدين بك يضرب قلاع عكا من البحر فتقدم الاسطول (ديسمبرة سنة 1831) واصطفت سفنه امام حصون المدينة، واخذت تضربها بالمدافع. كان عدد هذه السفن تسع بوارج تقل 3810 من البحارة، وسلاحها 484 مدفعا، وهذه اسماؤها كما ذكرها إسماعيل سرهنك، وهي: الفرقاطة كفر الشيخ وعليها القومندان برسيك الإنجليزي، والفرقاطة الجعفرية وقومندانها برغمه لي احمد قبودان وعليها علم الاميرال الأول قائد الاسطول، والفرقاطة البحيرة وقومندانها عبد اللطيف قبودان (الذي صار باشا وتولى نظارة البحيرة فيما بعد) وتحمل علم الاميرال الثاني مصطفى مطوش باشا، والفرقاطة رشيد وعليها السيد علي قبودان، والفرقاطة شير جهاد وعيها نوري قبودان، والفرقاطة دمياط وعليها هدايت محمد قبودان، والفرقاطة مفتاح جهاد وعليها مصطفى قبودان الجزائري، والسفينة بومبه وعليها بيجان قبودان، والسفينة رهبر جهاد وعليها علي رشيد قبودان. اخذت هذه البوارج تطلق مدافعها على حصون عكا طول النهار، ولكنها لم تصبها بضرر يذكر لمتانتها، ثم رست مع باقي سفن الاسطول التي لم تشترك في الضرب، واصيبت بعض السفن المصرية باضرار اضطرتها إلى العودة للإسكندرية. وكان للاسطول المصري جولات مهمة على ظهر البحار خلال الحرب، فقد تلقى محمد علي باشا من احدى سفن العمارة المصرية في شهر يونيه سنة 1832 نبأ خروج الاسطول التركي من الدردنيل بقيادة الاميرال خليل باشا رفعت ليشترك في القتال، وكان مؤلفا من خمس وثلاثين سفينة حربية، فاصدر تعليماته إلى العمارة المصرية بالإقلاع إلى بحر الارخبيل لتبحث عن الاسطول العثماني وتقاتله، فسارت إلى مياه رودس وكان الاسطول العثماني قد اتجه في ذلك الحين إلى ثغر الإسكندرية لامداد الجيش التركي بالرجال والمؤونة والعتاد. فلما وصل إلى الإسكندرية كانت الهزيمة قد حلت بالجيش التركي في حمص، ثم وقعت هزيمة بيلان، فعاد ادراجه واقلعت سفنه إلى جزيرة رودس تاركة كميات كبيرة من المؤونة لم يستطع الترك حملها لما كانوا فيه من العجلة. اما العمارة المصرية فكانت مؤلفة من سبع وعشرين سفينة حربية معقودا لواؤها للاميرال عثمان نور الدين باشا، فسارت تمخر العباب باحثة عن الاسطول العثماني، واجتمع الاسطولان بعد واقعة بيلان في مياه قبرص، ومع ان الاسطول التركي كان أكثر عددا وعددا من العمارة المصرية فان قبودانه تجبن الاشتباك في قتال مع الاسطول المصري، وخشى ان يلحقه البوار إذا اصطدم به، فآثر ان يلزم خطة الدفاع، واخذ الاميرال عثمان نور الدين باشا من ناحيته يرقب حركات الأسطول العثماني، دون أن يسعى لمهاجمته، وبقى الاسطولان طويلا في هذا الموقف، إلى ان سار اميرال الاسطول التركي إلى ميناء مرمريس من ثغور الانضول ليأوي إليها، فتعقبته العمارة المصرية، وحاصرت الميناء، ولكن هياج البحر واشتدد الانواء في ذلك الفصل من الشتاء حالا دون استمرار الحصار، فاتجه نور الدين باشا بالعمارة المصرية إلى خليج السودة بجزيرة كريت، وبعد أن بقى الاسطول التركي في ثغر مرمريس عشرين يوما اقلع إلى مياه الدردنيل ثم رجعت العمارة المصرية إلى الإسكندرية. وقد كان للاسطول المصري عامة فضل كبير في تسهيل المواصلات البحرية بين مصر وسورية، ولولاه لما وجدت مصر من سبيل إلى امداد جيشها الا بطريق البر المحفوف بالمتاعب والأخطار، ولتعذر عليها الاتصال به وبالبلاد التي فتحتها. فللأسطول المصري فضل كبير في نجاح الحملة على سورية. التدخل الأوروبي استرعت انتصارات الجيش المصري انظار الدول الأوروبية، وفتحت باب المسالة المصرية على مصراعيه. ان المسألة السياسية العالمية المعروفة بالمسألة المصرية بدأت تظهر – في تاريخ مصر الحديث منذ الحملة الفرنسية، فمن ذلك العهد اتجهت المطامع السياسية الدولية إلى مصر، وتعددت المنازع في شأن مصيرها، فالحملة الفرنسية أول مثار للمسألة المصرية إذ انها كانت صراعا بين فرنسا وإنجلترا على فتح مصر واستعمارها، اما قبل ذلك فان التنافس بشأنها كان في الغالب تنافسا اقتصاديا، فلما جر نابليون حملته على مصر تحول إلى صراع سياسي، واخذت مطامع إنجلترا تتجه نحو فتح مصر والسيطرة السياسية عليها، ولقد رأيت مما فصلناه في الجزيأت الأول والثاني من "تاريخ الحركة القومية" ان الصراع بين فرنسا وإنجلترا بشان المسالة المصرية استمر طوال الحملة الفرنسية، وبعد انتهائها، وان انجتلرا لم تحارب فرنسا لاجلائها عن مصر فحسب، بل لتحل فيها محلها ولكي تحقق مطامعها السياسية والاستعمارية في وادي النيل. واستمرت المسالة المصرية مثارا للمطامع الإنجليزية منذ اسس محمد علي الدولة المصرية الحديثة، فلما اشتبكت مصر وتركيا في الحرب السورية اقترنت المسالة المصرية بالمسالة الشرقية، فاشتدت المنازعات الدولية بشانها وانبعثت المطامع القديمة التي كانت تسعى لها كل دولة حيال السلطنة العثمانينة. فالروسيا نظرت بعين الخوف والوجل إلى تقدم الجيش المصري واقترابه عن عاصمة تركيا، وخشيت إذا أطرد هذا التقدم ان يستولي محمد علي باشا على عرش السلطنة ويمد نفوذ الدولة المصرية إلى ضفاف البوسفور والدردنيل والبحر الأسود فيؤسس دولة قوية تقوم على انقاض السلطنة العثمانية المتداعية الأركان المختلة النظام، وليس مما يوافق سياسة الروسيا ان يقع هذا الانقلاب لانه يحول دون تحقيق اطماعها في الوصول إلى البواغيز والبحر الأبيض المتوسط، فبادرت إلى التدخل لمعاونة تركيا، واوفدت الجنرال مورافييف إلى السلطان محمود ليعرض عليه استعدادها للدفاع بقواتها البرية والبحرية عن السلطنة العثمانية، ومعنى هذا الدفاع من الروسيا بسط حمايتها الفعلية على تركيا، فهال فرنسا وإنجلترا امر هذا التدخل وخشيتا على سياستهما ومصالحهما ان تستهدف للخطر إذا بسطت الروسيا حمايتها أو نفوذها في تركيا، واتقاء لهذا الخطر بذلنا جهودهما لوقف تقدم الجيش المصري حتى لا تجد الروسيا مسوغا لحماية تركيا، ففرنسا وإنجلترا لم تقصدا من تدخلها في المسالة المصرية والمسالة الشرقية مصلحة مصر ولا مصلحة تركيا، بل كانتا تعملان لتحقيق أغراضها الذاتية. واستخدمت فرنسا علاقاتها الودية مع مصر لاقناع محمد علي بتسوية الخلاف بينه وبين السلطان، واوفدت إلى الاستانة الاميرال روسان سفيرا لها ليسعى في فض الخلاف بين تركيا ومصر ويمنع التدخل الروسي. وبذلك صارت مصر قبلة انظار الدول الأوروبية، إذ كان مناط آمالهن اقناع محمد علي باشا بتسوية الخلاف مع تركيا حتى لا يدي تدخل الروسيا إلى ازمة أوروبية قد تنتهي بتحكيم السيف بينهن. فعلى خطة مصر في ذلك الحين كان يتوقف التوزان الأوروبي، من اجل ذلك وفدت رسل التفاهم على محمد علي باشا من كل صوب. فجاء الجنرال مورافييف إلى الإسكندرية، وقابله وعرض عليه الوساطة بينه وبين السلطان، فاكرم محمد علي وفادته واحسن لقاءه، ولكن تمسك بوجهة نظره. وكذلك ارسل السلطان بايعاز من السفارة الفرنسية مندوبا عنه وهو خليل باشا ليفاوض محمد علي في حسم الخلاف وديا، وارسل الاميرال روسان إلى محمد علي يطلب اليه الا يشتط في طلباته حقنا للدماء، وان يكتفي من فتوحه بولايات صيدا (عكا) وطرابلس والقدس ونابلس. فرفض هذه الشروط واصر على ضم سورية وولاية ادنه إلى مصر، وق اصر على الاحتفاظ بإقليم ادنه وهو من صميم الاناضول لما اشتهر عنه من كثرة مناجمه ووفروة اخشابه، ولانه ينتهي بجبال طوروس التي اراد محمد علي جعلها الحد الفاصل بين مصر وتركيا، أما تركيا فقد ازدادت خضوعها للروسيا ورضيت ان تحميها بقواتها البحرية والبرية، فجاء اسطول روسي ورسا في مياه البوسفور، ونزلت قوة من الجنود الروس إلى الشواطئ التركية الآسيوية لتدفع غزوة الجيش المصري. وقد رأى محمد علي باشا ان الدول انما تسعى إلى هضم حقوق مصر ارضاء لتركيا، فوقف تجاهها موقفا مشرفا استمسك فيه بحقوق مصر، وبعث في هذا الصدد برسائل عدة تدل على قوة يقينه ومضاء عزيمته، واهما الخطاب الذي ارسله إلى الاميرال روسان سفير فرنسان في الاستانة بتاريخ 8 مارس سنة 1833 ردا على رسالته اليه، قال فيه: "تلقيت رسالتكم المؤرخة 22 فبراير التي تسلمتها من ياوركم والتي تعترضون فيها على وتعلنوني بأن لاحق لي في المطالبة بما عدا بلاد عكا والقدس ونابلس وطرابلس الشام، وان الواجب علي أن أسحب جيشي فورا، وتنذروني باني في حالة الرفض استهدف لاخطر العواقب، وقد اضاف ياوركم شفويا بناء على تعليماتي باني اذا بقيت متمسكا بمطالبي فسيجئ الاسطول الإنجليزي والروسي إلى سواحل مصر. "على اني يا جناب السفير اتساءل باي حق تطلبون مني هذه التضحية؟ ان امتى باجمعها تؤيدني في موقفي، وان في استطاعي بكلمة مني ان احرض شعوب الرومللي والاناوضل على الثورة فيلبو ندائي، ويمكنني بتأييد امتى ان افعل أكثر من ذلك، لقد امتدت سيطرتي على اقطار عدة، والنصر حليفي في كل الميادين، ومع ان الراي العام يؤيدي في امتلاك سورية باكملها فاني قد وقفت زحف جنودي رغبة مني في حقن الدماء ولكي يتسع الوقت امامي لاتعرف ميول الدولة الأوروبية، ومقابل هذا الاعتدال وحسن النية وتلك التضحيات العديدة التي بذلتها امتي، والتي نلت الانتصارات الباهرة بفضلها وبفضل تأييدها لي، تطلبون من ان اتخلى عن البلاد التي فتحتها وان انسحب بجنودي إلى منطقة صغيرة تسمونها ولاية! اليس في هذا حكم علي بالإعدام السياسي؟ "على أن لي ملء الثقة الا تأبى فرنسا وإنجلترا الاعتراف بحقوقي ومعاملتي بالانصاف فان ذلك مرتبط بشرفها، واذا خاب املي فليس امامي الا ان اذعن لقضاء الله، وهنالك اوثر الموت الشريف على احتمال الذل والعار، وسأبذل نفسي بكل ابتهاج فداءا لقضية امتي، مغتبطا بخدمة بلادي حتى آخر نسمة من حياتي، ذلك ما صممت عزمي عليه، وقد روى التاريخ امثلة عديدة لمثل هذا الإخلاص، ومهما يكن ما صممت عزمي عليه، وقد روى التاريخ أمثلة عديدة لمثل هذا الإخلاص، ومعما يكن فان لي وطيد الامل في انكم ستقدرون عدالة مطالبي وتزيدون اقتراحي الاخيرة التي قدمتها إلى خليل باشا، وفي انتظار تحقيق هذا الامل قد كتبت لكم هذا الخطاب الودي الذي تسلمه مني ياوركم يدا بيد". الإسكندرية في 8 مارس سنة 1833 محمد علي والي مصر
نتيجة المعركة إنتهت الواقعة بهزيمة الجيش التركى، ودام القتال فيها سبع ساعات، إذ بدأت في الظهر وانتهت بعد غروب الشمس بساعتين، وكانت معركة قونيه نصرا مبينا للجيش المصري، وصفحة فخار في تاريخ مصر الحربى.و لقد كانت من المعارك الفاصلة في حروب مصر. لأنها فتحت أمام الجيش طريق الأستانة، إذ أصبح على مسيرة ستة أيام من البوسفور، وكانت الطريق مخلاة لا يعترضه فيها جيش ولا معقل، فلا جرم أن ارتعدت فرائض السطان محمود بعد هذه الواقعة إذ رأى قوائم عرشه تتزلزل أمام ضربات الجيش المصري وانتطاراته المتوالية. احتلال كوتاهية ومغنيسيا واقامة الحكم المصري في أزمير وفي غضون ذلك تقدم إبراهيم باشا بجيشه فاحتل كوتاهية وصار على مسافة خمسين فرسخا من الاستانة، ثم انفذ كتيبة من الجنود احتلت مغنيسيا بالقرب من ازمير (انظر الخريطة الملحقة بهذا الفصل)، وأنفذ رسولا إلى ازمير ليقيم الحكم المصري بها، وقد وصل الرسول إليها ولم يلق بها مقاومة، وعزل حاكم المدينة طاهر باشا واقام بدلا منه أحد اعيانها منصور زده (فبراير سنة 1833)، ورحبت المدينة بهذا الانقلاب، ولكن الاميرال روسان سفير فرنسا في الاستانة تدخل في الامر حتى لا يستفحل النزاع وتتخذ الروسيا احتلال ازمير ذريعة إلى حماية تركيا، فارسل إلى إبراهيم باشا يعترض على ما فعله رسوله في ازمير وينذره بقطع العلاقات، فلم يسع إبراهيم باشا الا الاجابة بانه لا يقصد احتلال ازمير، وبذلك انتهى الخلاف وعاد الحاكم القديم إلى منصبه (مارس سنة 1833). الخسائر من الطرفين لم تزد خسارة المصريين عن 262 قتيلا و 530 جريحا، أما الجيش التركى فقد أسر قائده ونحو خمسة اّلاف إلى ستة اّلاف من رجاله، من بينهم عدد كبير من الظباط والقواد، وقتل من جنوده نحو ثلاثة اّلاف، وغنم المصريون منه نحو 46 دمفعا وعددا كبيرا من الرايات.
No comments:
Post a Comment